الحرب التجارية العالمية مؤجلة

الحرب التجارية العالمية مؤجلة

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي قبل ما يقرب من 80 عاما تقريبا،

اعتمد نمو الاقتصاد العالمي، حتى في أعوام صراع القطبين والحرب الباردة، على الجهود الحثيثة لتعزيز التجارة الدولية بإزالة الحواجز التجارية.

كانت الولايات المتحدة بوصفها قائد الاقتصاد الحر في مقدمة المدافعين عن حرية التجارة وحرية حركة رؤوس الأموال

بالطبع تغير الأمر في الأعوام الأربعة التي تولى فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب سدة السلطة

إذ تبنى مواقف اقتصادية وتجارية حمائية، واتخذ عديدا من القيود التي تعيق التبادل التجاري الحر مع أكبر شركاء بلاده التجاريين-الصين والاتحاد الأوروبي.

على أي حال، تغيرت الإدارة ووصل الديمقراطيون إلى البيت الأبيض

وتوقع كثيرون أن يرفع أنصار التجارة الحرة رايات النصر من جديد، إلا أن هذا لم يحدث بالشكل المرجو

وبات كثيرون يعبرون عن تشككهم في التزام إدارة الرئيس بايدن بالدفاع عن التجارة الحرة في الواقع العملي

ومع مرور الوقت باتت الظنون قناعات

وزاد عدد الخبراء الذين يرون أن البيت الأبيض يدافع في العلن عن التجارة الحرة، لكنه يتبنى على أرض الواقع ما يخالف ذلك.

الحرب التجارية العالمية مؤجلة

لم يشف عالمنا بعد من تبعات جائحة كورونا، والحرب الروسية – الأوكرانية المتواصلة تزيد الطامة الاقتصادية يوما بعد آخر، ومعدلات التضخم المرتفعة هي الشغل الشاغل للجميع خاصة محافظي البنوك المركزية،

وشبح الركود يحلق حاليا في الأجواء سواء في الولايات المتحدة أو عديد من الاقتصادات الأوروبية، والعجز عن سداد الديون بات خطرا يدق أبواب الاقتصادات الناشئة، في ظل تلك الأوضاع العسيرة،

فإن ما كان يناقش همسا قبل بعض الوقت بات الآن حديثا صاخبا مرتفع الصوت لا لبس فيه. هل حقا تخلت الولايات المتحدة -وفي صمت- عن مناصرتها للتجارة الحرة؟ وهل يمكن أن يكون ذلك بداية لاندلاع حرب تجارية تضاف إلى المخاطر التي يعانيها الاقتصاد الدولي حاليا؟

خطورة الحروب التجارية تكمن في قدرتها التدميرية، لأن الدول التي تخوض تلك الحروب تميل إلى الانتقام من خلال إقامة حواجز تجارية متزايدة الارتفاع، وفرض تعريفات تميزية على الواردات.

لكن لماذا يزداد القلق لدى بعض الدوائر الاقتصادية الدولية من الموقف الحقيقي للولايات المتحدة من حرية التجارة؟ وهل فعلا تغير الموقف الأمريكي الذي ظل يناصر الحرية التجارية عقودا طوالا.

الحرب التجارية

يعتقد الدكتور إيدور بوبي أستاذ التجارة الدولية في جامعة كامبريدج، أن الحرب التجارية على نطاق عالمي مستبعدة على الأقل هذا العام، لكن جميع العوامل والظروف مهيأة لاندلاعها بمجرد توقف الحرب الروسية – الأوكرانية.

ويقول “منذ 2017 سحبت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب دعم الولايات المتحدة لمنظمة التجارة العالمية، وبدأت حربا تجارية مع الصين،

وفرضت رسوما شاملة على مواد وسلع مهمة مثل الصلب والألمنيوم، بل إنها لم تقف عند هذا الحد، بل فرضت رسوما وضرائب جمركية على السلع المستوردة من حلفائها في أوروبا وبريطانيا،

ولحسن الحظ فإن أوروبا لم ترد الصاع صاعين، وامتنع الشركاء التجاريين للولايات المتحدة عن الرد بعنف على أمل أن تقوم الإدارة التالية بإعادة الأمور إلى نصابها، لكن هذا لم يحدث”.

لمزيد من الأخبار حول العقوبات الاقتصادية أضغط هنا…

ويضيف قائلا: “إدارة بايدن لم تلغ تدابير إدارة ترمب التجارية، لكن الجميع التزم الصمت بسبب الحرب الروسية – الأوكرانية،

ما يجعلني أشك في أن الاتحاد الأوروبي وبريطانيا سيلتزمان الصمت حول تعرضهما للغبن التجاري من الولايات المتحدة بمجرد انتهاء الحرب”.

الاستثمارات الدولية

تربط الدكتورة ماريان آدم أستاذة النظم الاستثمارية في جامعة جلاسكو بين مخاطر الحرب التجارية من جانب، وما تصفه بالقيود التي تفرض على تحركات رأس المال على المستوى الدولي من جانب آخر، إذ تقول

“الاستثمارات الدولية تعاق في الوقت الحالي مع تبني السلطات الأمريكية وحكومات البلدان الأوروبية وبريطانيا وحتى الصين قوانين وتدابير لمراجعة الاستثمارات الخارجية تحت ذريعة الأمن القومي”.

وأكدت أنه إذ أخذ في الحسبان التداخل الدولي بين التجارة الخارجية والاستثمارات الأجنبية، فإننا نشهد نهجا أكثر صرامة وأقل ترحيبا بالاستثمارات الدولية، وهذا يعطي مؤشرا كبيرا إلى أن التجارة الحرة تتعرض الآن لضربات مؤلمة، لكن الحرب الروسية – الأوكرانية تجبر الجميع على التزام الصمت.

وتضيف “إدارة الرئيس بايدن وجهت الهيئة التي تجري مراجعات على الاستثمارات الدولية، وهي لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة، إلى تشديد عملية التدقيق في الصفقات الأجنبية، خاصة الصينية وتحديدا في مجال التقنيات المهمة أو تعرض سلاسل التوريد للخطر”.

اندلاع حرب تجارية

مع هذا، يرى بعض الخبراء أن المخاوف من اندلاع حرب تجارية مخاوف مبالغ فيها، وأن التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن التجارة الحرة لا يزال قائما

رغم القناعة بتآكل هامش الحرية التجارية الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ومن هذا المنطلق

يرى هؤلاء الخبراء أن العولمة كفكرة مرتبطة بالتجارة الحرة لا تزال تتمتع بقبول كبير، وأن ما يحدث ليس تراجعا عن فكرة التجارة الحرة، بل إعادة لتنظيم العولمة ومن ثم التجارة الحرة، وليس التخلي عنها.

جسبر برودي الاستشاري في منظمة التجارة العالمية يعلق للاقتصادية قائلا: “العولمة، ومن ثم التجارة الحرة وحركة رؤوس الأموال لم تنته، لكنها تأخذ أشكالا جديدة تعتمد أكثر فأكثر على الروابط الإقليمية وصياغة تشكيلات للتكتلات الاقتصادية للقطاعات الحساسة والمهمة، فالتخلي التام عن التجارة الحرة والعولمة أمر ليس قابلا للتحقيق ولا مرغوب فيه بين الشركاء”.

من هنا يمكن أن نقول إن قطاعا كبيرا من الخبراء يرى أن الولايات المتحدة وباعتبارها الاقتصاد الأكبر في العالم تخلت عن مسار اتفاقيات التجارة الحرة ذات الطبيعة العالمية

وتركز الآن على آليات التعاون غير التقليدية والمرنة مثل الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيط الهندي والهادئ أو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أو مجلس التجارة والتكنولوجيا، ويعكس هذا تحولا عن المسار الذي تبنته الولايات المتحدة لأعوام بدعم التجارة العالمية على المستوى الدولي.

لمشاهدة فيديوهات عن الحروب والأزمات أضغط هنا..

فكرة التجارة الحرة

ويعلق رايون مايلز الباحث الخبير في مجال التجارة الدولية قائلا: “التحول في الموقف الأمريكي والعالمي من فكرة التجارة الحرة يعود إلى تناقص الفائدة والعوائد الاقتصادية من التجارة الحرة

فقد تم تصميم اتفاقيات التجارة الحرة في المقام الأول لخفض التعريفات، وبالفعل ومع مرور الوقت تم الغاؤها أو تخفيضها في الأغلب، وبالتالي فإن نطاق تقديم مزيد من التخفيضات الجمركية محدود.

ويضيف “كما أن تحرير التجارة تضمن معالجة التدابير غير الجمركية مثل القواعد واللوائح والمعايير

وهذا أيضا وصل إلى حده الأقصى، ومن ثم لم يعد هناك فائدة كبيرة من وجهة نظر واشنطن يمكن أن تجنى من التجارة الحرة، أضف إلى ذلك تقلص شعبية مفاهيم التجارة الحرة في الولايات المتحدة نتيجة تأثيرها في الوظائف في بعض القطاعات الاقتصادية”.

وأشار إلى أن مشكلة الولايات المتحدة هي أنها تدير ظهرها للتجارة الحرة في وقت لا تزال فيه الصين والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي حريصين على المضي قدما والدفاع عن التجارة الحرة

لذلك يبحث الجميع عن حل وسط وهو التحرك لتعميق التعاون الإقليمي والشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة.

مع هذا، يعتقد البعض أن تلك النظرة على الرغم من صحتها نظرة جزئية لا تتصف بالشمول ولا تكشف عن المخاطر الحقيقية التي تتعرض لها التجارة الدولية، التي تبرز في حالة الاحتقان المتزايد في العلاقات التجارية بين الأطراف الرئيسة في المنظومة الاقتصادية العالمية، وهم: الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي

فعلاقات التعاون التجاري بين ضفتي الأطلسي تتعرض لضغوط ومشكلات كثيرة حتى قبل اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية

إذ يبدو وجود خلاف في وجهات النظر فيما يتعلق بأفضل السبل للتعامل مع الصين، وقد زاد الأمر حدة في الفترة الأخيرة عندما تعلق الأمر بالطاقة الخضراء والسياسة الصناعية في الولايات المتحدة.

التضخم الأمريكي

وقانون التضخم الأمريكي، الذي أقرته إدارة الرئيس بايدن وينص على استثمار مبلغ غير مسبوق قدره 369 مليار دولار في جهود المناخ الأمريكي والطاقة النظيفة، أثار مخاوف الأوروبيين، وتحديدا الفرنسيين، بشأن القدرة التنافسية الصناعية بين بلدان الاتحاد الأوروبي من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر.

ويعلق  صامويل باركر الباحث في مجال التعاون الاقتصادي الدولي قائلا: “هناك صيغ جديدة للتعاون الدولي

النظرة القاتمة في الوقت الراهن لمستقبل التجارة الحرة لا تنفي أنه في الأجل القصير سيسود التعاون الوثيق بين ضفتي الأطلسي رغم الاحتكاكات الدائمة بين الطرفين

ومن المرجح أن تتراجع اضطرابات سلاسل التوريد هذا العام والعام المقبل، خاصة بعد حل مشكلة ازدحام الموانئ في الولايات المتحدة والصين، وانخفاض تكاليف الشحن إلى مستويات ما قبل الوباء”

ويضيف “ما يمكن الجزم به الآن، هو أن الولايات المتحدة ربما لم تعد في مقدمة صفوف المدافعين عن التجارة الحرة على الأقل في التطبيق العملي

لكنها ستظل مدافعا عن تعاون أكبر لبناء نظام تجاري أكثر شمولا واستدامة ومرونة لدفع النمو الاقتصادي ولتفادي الركود”

المصدر: الاقتصادية

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى