حاكم المصرف المركزي اللبناني في مرمى الهجوم
في عام 2008، وفقًا لتقرير لرويترز وبخلاف الكثير من الدول، كان لبنان يمر عبر أسوأ تراجع عالمي في ثمانين عامًا من دون الإصابة بضرر يذكر. ففي ظل ازدهار الاقتصاد ومتانة البنوك، تحدث حاكم مصرف لبنان (البنك المركزي) رياض سلامة بثقة عن نجاح لبنان. وفي ذلك الحين، قال سلامة، وهو الآن أحد أقدم محافظي البنوك المركزية في العالم، لهيئة الإذاعة البريطانية “رأيت الأزمة قادمة وأبلغت البنوك التجارية في 2007 بالتخارج من جميع الاستثمارات الدولية المرتبطة بالأسواق الدولية”. ولاقت تلك الجهود إشادة من صندوق النقد الدولي، وهو ما تبعه جوائز، لكن بعد أكثر من عشر سنوات، بات سجله في مرمى الهجوم.
ويلقي المنتقدون باللوم جزئيًا على سياسات سلامة في أسوأ أزمة اقتصادية يشهدها لبنان في ثلاثين عامًا، التي تشمل ضغوطًا على النظام المالي والمصرفي لم يسبق لها مثيل، حتى إبان الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990.
ويرى المدافعون البنك المركزي دعامة الاستقرار وإحدى المؤسسات القليلة التي عملت بكفاءة خلال سنوات من سوء الأداء الحكومي لسياسيين، يعد فسادهم السبب الكامن للأزمة.
والمتظاهرون في الشوارع، الذين أشادوا يومًا ما بقدرة سلامة على توجيه النظام المالي عبر نوبات من الاضطراب، يضعون الآن رسوم جرافيتي على جدران البنك المركزي.
وقالت ليلى رائدة الأعمال، البالغة من العمر 30 عامًا: “اعتاد الناس على اعتبار الحاكم إلهًا لكنهم يعلمون الآن ماذا يجري”.
ومن السياسات التي اتسم بها عهده إلى حد كبير، ربط الليرة اللبنانية بالدولار، وفي السنوات القليلة الماضية، انطوت ما تعرف بعمليات “الهندسة المالية” على امتصاص السيولة الدولارية من البنوك المحلية بأسعار فائدة مرتفعة للإبقاء على المالية العامة للحكومة مستقرة.
واجتذب نهجه انتقادات متزايدة في أعقاب تظاهرات مناهضة للحكومة اندلعت في 17 أكتوبر تشرين الأول، ودفعت سعد الحريري للتنحي عن رئاسة الوزراء، مما أصاب المودعين بذعر دفعهم لسحب مليارات الدولارات من البنوك.
وأغلقت البنوك أبوابها مجددًا هذا الأسبوع، بعد أن كانت أغلقت في معظم شهر أكتوبر تشرين الأول، وتضع قيودًا على التحويلات للخارج وعمليات سحب الدولار الأمريكي.
*تضاؤل التدفقات:
يصف ناصر سعيدي، وهو نائب سابق لمحافظ البنك المركزي في بداية عهد سلامة، الهندسة المالية “بمخطط بونزي”، إذ تعتمد على اقتراض جديد لتسديد ديون قائمة.
وردد الاتهام نفسه نسيم نقولا طالب، وهو أمريكي من أصل لبناني ويعمل أستاذًا في هندسة المخاطر بجامعة نيويورك.
وردًا على ذلك، قالت مديرية الشؤون القانونية في مصرف لبنان إن عملياته تتوافق مع القانون، كما ينص قانون النقد والتسليف الصادر في 1963.
وأضافت في بيان لرويترز، أن ذلك يسمح للبنك “بطلب احتياطيات إلزامية، أو زيادة رأس المال، وعناصر أخرى شائعة في عمليات مصرف لبنان وتستخدمها بنوك مركزية أخرى”.
يقول المعجبون بسلامة إنه ليس أمامه الكثير من الخيارات سوى اللجوء إلى الهندسة المالية في 2016 في ظل مواجهة لبنان صعوبات بسبب تراجع التدفقات الداخلة من اللبنانيين في الخارج، وزيادة الضغط على البنك للتحرك.
وبدأ سلامة الاقتراض من البنوك بأسعار فائدة مرتفعة، وهو ما تطلب خدمة فيما بعد، مما يجعل البنك المركزي مدينًا بحوالي 85 مليار دولار وفق بعض التقديرات، وهو أكثر من ضعف مستوى احتياطياته من النقد الأجنبي.
وقال جاربيس إراديان كبير الاقتصاديين بمؤسسة التمويل الدولية إنه على رغم أن تلك الممارسة ساهمت في جمع احتياطيات، فإنها ساعدت أيضًا في رفع أسعار الفائدة مما يقوض الاقتصاد.
وقال المصرفي الاستثماري اللبناني السابق توني عسيلي “هذا بالنسبة لي مجرد تغطية للتصدعات… في النهاية يزول الغطاء وتبقى التصدعات”.
ويقول توفيق غاسبار المستشار السابق بوزارة المال إنه إذا لم تكن البنوك قد تخلت عن سيولتها الدولارية من البنوك التي تعمل بنظام المراسلة في الخارج ووضعتها لدى البنك المركزي، لم يكن للنظام المالي أن يقع في مشكلة. ويقارن هذا مع فترة الحرب الأهلية عندما أبقت البنوك على سيولة كافية مع بنوكها المراسلة، مما ساعد فى استقرار النظام.
وقال “السبب الأساسي لما نشهده فيما يتعلق بقيود رأس المال والتهافت على البنوك هو السياسة النقدية للبنك المركزي وسوء سياسة البنوك التجارية.. بمعزل عن أي تطورات أخرى”.
*نقص:
بدأت ليلى ولبنانيون آخرون التشكيك في حنكة سلامة حين بدأوا يلاحظون ارتفاع أسعار الأغذية وسلع أخرى، وحدوث نقص في الوقود، إذ بدأ سعر الصرف الرسمي يشهد تشظيًا بسبب شح السيولة الدولارية.
ويصر سلامة (69 عامًا) على أن النظام المالي لا يزال قويًا. ويوم الإثنين، أقر بأنه بينما لا يمكن أن تمضي عمليات الهندسة المالية قدمًا في الوقت الحالي، فإن احتياطيات النقد الأجنبي القابلة للاستخدام البالغة 30 مليار دولار كافية لدعم ربط الليرة بالدولار.
والأزمة الأحدث ليست الأولى التي يواجهها سلامة منذ أن ترك مسارًا وظيفيًا واعدًا في ميريل لينش ليرأس البنك المركزي في 1993.
وينعته أقرانه بأنه يجمع بين القوة والهدوء والرؤية المحافظة للقواعد التنظيمية، وهو أمر ضروري في بلد عرضة لعدم الاستقرار.
وأشرف سلامة على ربط الليرة بالدولار في 1997 عند سعر صرفها الحالي، مما ساهم في تحقيق الاستقرار للاقتصاد. وبلغت شعبيته درجة أن سلامة الذي يدخن السيجار نُظر إليه مرارًا على أنه مرشح رئاسي محتمل.
لكن الأحداث التي جرت في الآونة الأخيرة لم تكن عاملًا مساعدًا.
فالدعم المالي الذي قدمته دول خليجية في أعقاب نزاع 2006 ليس قادمًا هذه المرة. كما أن تباطؤ إحراز تقدم حكومي صوب تقليص العجز لم يساعد أيضًا.
وقال سلامة يوم الإثنين “نحن نؤمن التمويل للبلد حفاظًا على استمرار هذا البلد الذي نحبه… ولكن لسنا نحن الذين نصرف الأموال”.