البنوك المركزية كيف تتجنب الأخطاء
البنوك المركزية كيف تتجنب الأخطاء
حتى الاقتصاديون بوسعهم الحب. وأنا أحب مستهدفات التضخم بعد أن شاركت، على مدى أكثر من 30 عاما، في تصميمها وتنفيذها في المملكة المتحدة وفي عدد من الدول الأخرى.
غير أن الأحداث الأخيرة ألقت ظلالا كثيفة على عملية استهداف التضخم، نتيجة لارتفاع معدلاته في معظم الدول إلى مستويات تعادل أضعاف المستهدفات التي اعتمدتها البنوك المركزية في تلك الدول.
الشواهد من العامين الماضيين تكشف لصناع السياسات عن درسين يعودان إلى خطأين صغيرين في السياسة النقدية.
الأول، أن البنوك المركزية كانت في البداية متأخرة جدا في تشديد السياسة، كما أخطأت في تشخيص ارتفاع كبير، ودائم، وعلى نطاق واسع في الأسعار وعدته ارتفاعا معتدلا، وعابرا، ومقتصرا على الطاقة.
الدرس الآخر هو أن البنوك المركزية انخرطت بعد ذلك في لعبة لتدارك كل من التضخم ومصداقيتها.
جاء هذا حين كان الطلب يتباطأ، ما جعل وضع النمو السيئ أسوأ.
وقد ألقى بظلال من الشك على حكمة التشديد النقدي واستدامته.
هذا يجعل بنوكا مركزية عديدة تكافح من أجل التعبير عن نواياها،
هل يجب أن تستمر السياسة النقدية للحد من زيادة الضرر الواقع على الاقتصاد، أم العدول عنها للحد من الضغوط التضخمية في المستقبل؟
تسببت حالة عدم اليقين هذه في تقلب الأسواق المالية وتذبذب توقعات التضخم.
البنوك المركزية كيف تتجنب الأخطاء
ما شهده العالم هو تحول صعودي في مستوى الأسعار العالمية.
نشأ هذا عن الاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية التي عصفت بها الريح الجيوسياسية المتقاطعة.
ولأن سلاسل التوريد هذه أصبحت أكثر تجزؤا وأكثر هشاشة، دفعت الأسعار إلى الأعلى.
لا تشتد هذه الضغوط في مكان أكثر مما هي عليه في إمدادات الأيدي العاملة ومهاراتها. أسفر عن هذا ضغط تصاعدي حاد على الأجور وعلى الأسعار، ما أدى إلى بطء تكيف الأسعار العالمية، وأدى في الوقت نفسه إلى ارتفاعها. المعدلات المرتفعة والثابتة للتضخم الأساسي تشهد على ذلك.
هذا التحول التوازن الصعودي في مستوى الأسعار العالمية
هو صورة معكوسة لعصر العولمة الذهبي الذي حدث بعد الحرب العالمية الثانية، عندما طالت سلاسل التوريد العالمية وترسخت، ما أسهم في عجز التضخم عن بلوغ مستوياته المستهدفة في دول كثيرة، بما فيها اليابان والولايات المتحدة ومنطقة اليورو.
انتهى هذا العصر الذهبي الآن، لأن سلاسل التوريد تستغرق وقتا لإصلاحها وإعادة تهيئتها، خاصة إمدادات الأيدي العاملة ومهاراتها.
يبدو أن الانكماش الناتج سيستمر لفترة تقاس بالأعوام وليس بالأرباع.
صدمات العرض العالمية الكبيرة والدائمة من هذا النوع تضع صناع السياسات النقدية في مأزق.
هل يجيزون معدل تضخم فوق المستهدف – بما يتماشى مع ضعف استجابة البنوك المركزية الأولية في الآونة الأخيرة؟
أم أنها تستمر في رفع أسعار الفائدة لمواجهة الأسعار المرتفعة والبطيئة التكيف – بما يتماشى مع نشاطها (المفرط) اللاحق؟
ما حدث حتى الآن هو أن البنوك المركزية تجاوزت الحد في كلا الاتجاهين،
ويمكن القول إنها كانت في البداية متساهلة جدا مع التضخم، ثم قاسية جدا على الاقتصاد. السؤال المتعلق بالسياسات، بالنظر إلى المستقبل، هو كيفية منع تكرار هذه الأخطاء الصغيرة في السياسة النقدية في حالة استمرار الضغوط التصاعدية على الأسعار العالمية.
لمزيد من الأخبار حول أسعار الفائدة أضغط هنا…
يتمثل أحد الخيارات في الالتزام بالمستهدفات الحالية وتفسير حالات تجاوز معدل التضخم على أنها سلسلة من مفاجآت الأسعار غير المتوقعة.
لكن لأن حدوث مزيد من التجاوزات لن يكون مفاجئا، يخاطر هذا النهج بتوجيه ضربة أخرى لمصداقية البنوك المركزية المستنفدة بالفعل.
الخيار الثاني، الذي نوقش أخيرا على هذه الصفحات، هو رفع معدل مستهدفات التضخم بصورة دائمة إلى 3 في المائة، الذي سيحد من حجم الإخفاقات المحتملة في مستهدف التضخم.
لكن مهما كانت المزايا الجوهرية لوضع مستهدف تضخم أعلى، سيكون هذا تشخيصا خاطئا، لأن المشكلة الحالية
هي ارتفاع الأسعار العالمية باستمرار، وليس معدلات التضخم القومية.
يتلخص الخيار الثالث، والمفضل، في استخدام المرونة المضمنة طبيعيا في عملية استهداف التضخم.
من الممكن أن يتم ذلك إما بإطالة الأمد الذي يعود فيه التضخم إلى المستوى المستهدف بشفافية، مثلا، من عام إلى عامين إلى ثلاثة إلى أربعة أعوام.
لمزيد من الأخبار حول التضخم أضغط هنا…
وإما بصورة أكثر جذرية، نظرا لأننا لا نستطيع أن نجزم على وجه التحديد إلى متى قد تستمر الأسعار العالمية في الارتفاع، يمكن أن يتم بتعليق مستهدفات التضخم فترة مؤقتة، مع قطع وعد بتعديلها في أقرب وقت ممكن في المستقبل.
إن مرونة الأمد، بدلا من المستهدفات في حد ذاتها، ستحمي الاقتصاد في المدى القريب، مع ترك التضخم مرتبطا بالمستهدف على المدى المتوسط.
بسبب لحظات مثل هذه، تم تصور عملية استهداف التضخم على أنها نهج يتسم بـ”حرية تصرف مقيدة”. الآن هو الوقت المناسب لتطبيق حرية تصرف مشروطة.
مع ارتفاع التضخم وهشاشة توقعات التضخم، يمكن القول إن أي تعديل في الأطر النقدية التي أفادتنا كثيرا يعد أسوأ استجابة ممكنة، بل في الواقع هي ثاني أسوأ استجابة.
الاستجابة الأسوأ تتمثل في الالتزام المتشدد بالمستهدفات الحالية والاستمرار في عدم بلوغها أو إلحاق أضرار غير ضرورية بالنمو الناشئ.
إيجاد طريقة ثالثة مرنة تسلك مسارا وسطا بين الخيارين الصعبين ستكون خيارا أفضل بكثير. إن كان حبي لمستهدفات التضخم سيدوم وإن كانت هذه المستهدفات ستبقى، ستكون هذه المرونة مطلوبة لمنع الأخطاء النقدية الصغيرة المرتكبة في الماضي القريب من التحول إلى أخطاء نقدية جسيمة في المستقبل.
آندي هالدين كبير الاقتصاديين السابق في بنك إنجلترا.
المصدر: الاقتصادية